شاعر الغنائية العربية الحديثة بامتياز، أو كما عبر جبرا ابراهيم جبرا، إنه أحد أكبر الشعراء الغنائيين في هذا العصر، تلك الغنائية التي تتموج على غير حقل بأعماق شاعريته المحملة بهواها الدمشقي.
هل أضيف شيئا بالافصاح عن كونه ثورة في الشعر العربي وأحد المفاصل التجديدية في تاريخ هذا الشعر؟
في ترحالاتي الكثيرة عبر مدن عربية وأوروبية كجزء من جيل وجد نفسه في خضم شتات فكري ومكاني نسج حياته ونتاجه وسلوكه في غموض هذا التيه وتشظيه في غياب أي لحمة جماعية تشد أوامره المبعثرة بفكرة ولو كانت ذات مفزع طوباوي أو "مشروع" ما.. كان الواقع بارز العظام والعفن يسد النوافذ من كل الجهات.
لم يكن هناك مشروع على نحو ما كان عليه الزمن القباني وأقرانه، فذهبت بنا الحياة في طرق مختلفة، أكثر أرقا ووحشة وكذلك التعبير الشعري والفني بصورة عامة الذي فضع بدوره لتحولات هذه الحياة المقذوفة في الربع الخالي وهذياناتها المتكسرة. وجدنا أنفسنا مشدودين بشكل حنيني الى ذلك الزمن ورعيله الكبير، من غير افتعال قطيعة ولا اتساق.
.. فقط، الأمكنة المتصدعة، العزلات والتقلبات الفكرية والاجتماعية العاصفة، التي لم تبق على مفهوم قائم أو بداهة فكرية وقومية وتاريخية. كل المثل السابقة والتصورات جرفها الفيضان، فهي بحاجة الى خلق صياغات جديدة أو إعادة النظر فيها.
بقي الزمن القباني زمن التأسيس المستمر، في أراض وعرة ومحصنة بأسلحة القمع الممتزج بالثروة والجهل.
وفي خضم هذا الرحيل أيضا لم ألتق بنزار قباني إلا في مناسبات عابرة في أكثر من مدينة، أي لم أقترب منه بشكل شخصي وحميم إلا أثناء زيارته لعمان عام 1993كنت راجعا بعد غياب طويل أفكر على نحو غامض وساخر بمشروع يسوغ هذا الرجوع.. هكذا أخذنا سياق الأحاديث الحميمة لمناقشة فكرة تأسيس مجلة ثقافية - فكرية، وكان شديد الحماس لأي مشروع داخل الوطن رغم المرارة والمكابدة التي سيواجهها أي مشروع ينزع نحو التنوير والاختلاف في مناخ أقرب الى العداء لأي ثقافة جدية. وبعد فترة ظهرت مجلة (نزوى) التي ستكمل عامها الرابع.
وفي هذه الزيارة الأولى حصل مشهد نادر وطريف، في مدينة مسقط العاصمة العمانية الجميلة التي يسودها الهدوء والغياب التام لازدحام الشوارع والطرقات، ما إن اقترب موعد الأمسية القبانية حتى اكتظت الشوارع وازدحمت وتسبب نزار قباني في أول أزمة مرور في تاريخ البلاد.
***
ليذهبوا حيث شاءوا
للمقاهي والكنائس والساحات
للجبال والسهول والوديان.
سيتكلمون لغتنا لا محالة
تلك اللغة التي اكتسبناها
بخبرة الألم والعذاب.
حفريات لا تخوم لها في هذا الجسد
ورغبات لا تحدها الجدران والأقبية.
من أين أجيء بأيام، يسيجها البداة والأقمار
في قلب الصحراء
لا أسمع فيها غير ثغاء الماعز
وعواء الذئاب
أيام ارتشف فيها مياه الاسلاف
مثلما أرتشف قهوة الصباح.
كل شيء مضى في حال سبيله
وبقينا هكذا
مسمرين فوق أراض تنهار باستمرار.
***
كل شيء مؤجل الى الغد
وكل غد الى الآخرة.
لا بأس أن تجز السكين الوريد
وأن تسمع الذئب في هجعة الليل
يدعو ضحاياه الى وليمة.
لا بأس أن يعدو القطيع الى حتفه
وأن تهيىء الأم العروس
في أكليل الورد
متذكرة صباها.
لا بأس أن يقتحم الفجر غرفتي
ناضحا بفصوله الدموية أبواب العالم.
لا بأس أن تطيل أظافرك وأسنانك
وتغمدها في جسد
ولا بأس أيضا
أن أجد جثتي ذات صباح
مؤجلا دفنها الى الغد
[/center]